Alayyam - الأيام

وجيه فانوس، ملامح من فاعلية الصُّورة في شعْر «جُوزف حَرب» /جريدة الأيام الإلكترونية .

وجيه فانوس، ملامح من فاعلية الصُّورة في شعْر «جُوزف حَرب» /جريدة الأيام الإلكترونية


 1480 | | | Admin



«جُوزف حَرب» 1944-2014 (2)
في الذِّكرى السَّابعة لانزراعه بخوراً معطاءً في تُراب الأرض
كتب وجيه فانوس :
المحبرة»، هي المجموعة الشِّعريَّة الأمثل في كشف فنِّيَّةِ الصُّورة عند جوزف حرب؛ إذ الأمر فيها أشدُّ عطاءً وعُمقاً وأروع شاعريَّة وتأثيراً. «المحبرة»، هي العمل الذي أنزوى من أجله «حرب» في صومعة عُمْرِهِ، وأناره بِزَيْتِ وجودِهِ وعافيتِهِ؛ ثمَّ خرج العملُ من قمقم «العزلة» ماردَ شِعْرٍ؛ الصُّورة قوام فاعليّته بامتياز.
«المحبرة» قصيدة واحدةٌ متكاملةٌ في سِفْرٍ شعريٍّ كبيرٍ؛ لعلَّهُ لَمْ يُسْبَقْ إلى مثلِه لا في الأَدَبِ العربيِّ، وربَّما في الآداب الأُخرى! هي رؤيةُ «جوزف حرب» إلى الكَوْنِ برمَّته، بتاريخه وناس هذا التَّاريخ، بأديانه وعقائده وكلِّ ما فيها من أخذٍ وعطاءٍ؛ ثمَّ إنَّ «المحبرة» هي التَّجربةُ الإنسانيَّةُ بكليَّتها، تقمَّصت نَصَّاً شعرِيَّاً، هو ملحمة إبداعٍ فنِّيٍّ قد لا يكون أحدٌ سبق «جوزف حرب» إلى مثله.
ثمَّة فاعليَّات متعدِّدة ومتنوِّعة للصُّورة في النَّصِّ الشِّعري؛ ولعلَّ من أهمِّها ما يمكن تسميته بـ «الصُّورة التِّقنِيَّة»، التي تنهض على أساسٍ من براعةٍ فنيَّةٍ مُعيَّنة، كما في قولِ «امرئ القيس»:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً/ كَجَلْمودِ صَخْرٍ حطَّهُ السَّيلُ مِنْ علِ
وهنا يكونُ إبرازٌ كُلِّيٌّ لِتِقَنِيَّةِ تَشَكُّلِ الصُّورةِ، إِذْ يُظهِرُ النَّصُّ لعبةً فنيَّةً ذات قيمةٍ تعليميَّةٍ أو تجربيَّةٍ وبُعْدٍ جماليٍّ عامٍّ؛ وغالباً ما تأتي هذه الصُّورة عَرَضاً، ضمن النَّص، وتظهرُ نافرةً عن سواها، ومن غير ما فاعِلِيَّةٍ عضويَةٍ في بنايتِهِ التَّشكِلِيَّة.
ثمَّة وجود آخر للصُّورة يمكن وسمه بـ «الصُّورةِ الهدفِ»؛ وهي الصُّورةُ التي تبرز لتوفيرِ فاعليَّةٍ جماليَّةٍ ومضمونيَّةٍ محدّدَةٍ وقصيرةِ المدى في النَّصِّ، كما في قولِ «أبي نواس»، موحياً بهالةٍ من القداسةِ تَلُفُّ رأسَ ساقيةِ الخَمْرِ: قامت بإبريقها والليل معتكرٌ
فلاح من وجهِها في البيتِ لألاءُ
وهنا يكون تقديمُ الصُّورةِ، عبر تقنيَّاتِ إيجادها وتشكيلها، لغرضٍ محدَّدٍ ضمن النَّصِّ الشِّعري؛ فهي صورةٌ محدَّدةُ الفاعليَّةِ ومحصورةُ التَّكوين.
أمَّا ما يمكن تعريفه بـ «الصُّورةِ الوجود»، فهو ما تتولَّد منه حقيقة الفاعليَّة الشِّعريَّة التي تنتظم النَّصَّ بكليته وتعطيه الألق الشعري. إنَّها وجود النَّص، إذ لا وجود للنَّصِّ خارجاً عنها؛ وهي، تالياً جوهر الوحدة العضويَّة المضمونيَّة والجماليَّة، في آن، التي تنتظم التشكُّلَ الكُليَّ لبناية النَّص. وهذه الصُّورة بالذَّات هي أبرز ما ينتظم الفاعليَّة الشِّعريَّة في نتاج «جوزف حرب» قاطبة، و«المحبرة» منه، بشكلٍ خاص.
الصُّورة، في «المحبرة»، فعل تبتُّل لـ «حربٍ» في محرابِ الوجود؛ ليكونَ الشِّعر وجود حياة. تبدأ الصورة من فاعليَّة أولى، هي فاعليَّة الوجود عبر الفن؛ وتنتقل، من ثمَّ، إلى فاعليَّة أشد شمولاً من الأولى، إذ تكون فيها الفاعليَّة للفنِّ باعتباره الدَّال الوحيد على الحياة. وتكون الفاعليَّة الفنيَّة للحياة، مسلكاً جماليَّاً وموضوعاتيَّاً للحياة/العيش ومعاينة للوجود ومعاناةً له في آن. وتكون معاينةُ الوجود ومعاناته ممارسةً لعيشِ الحقيقة المنبثقة/المشرقة من موضوع النَّص الجمالي. فالحقيقةُ، ههنا، فعلُ اختيارٍ للجمالِ؛ والجمالُ، في هذا المجال، هو الوجودُ الوحيدُ الذي يطرحه النَّصُّ؛ بغَضِّ النَّظرِ عن موضوع هذا النَّص. أمَّا الوجودُ المتجلِّي، عبر الجمال، فليس سوى حقيقة الصُّورة التي تنتظم نصَّ «محبرة» «جوزف حرب»؛ وهذه الصُّورةُ، موضوعٌ يكون العملُ عليهِ والغوصُ في أبعادهِ، فعلَ إغناءٍ للتَّجربة الشِّعريَّة العربيَّة المعاصرة، بصورة عامَّة، ومساهمةً أساساً في فهم الدَّرس الجمالي الشِّعري الإنسانيِّ، بصورةٍ خاصَّة.
ثمَّة صورةٌ قد تحلو تسميتها بصورة «محراب الشَّاعرِ في هيكله». إنَّها صورة الوضعيَّة التي انطلق منها الشَّاعر «جوزف حرب» في قراءاته التَّحليليَّة والتقويميَّة، التي انتظمت «المحبرة»، لكتاب «الكَوْن»:
يدي
ريح..
وطاولتي سواد الليل. والأوراق غيمٌ
عن يميني، قربها أقلام صندلة، ومحبرةٌ تقطر
حبرها الكُحي
من ماء البنفسج
عن يساري، شمعة من فضَّة، يدعونها: قمراً./ ولي كرسي أيلول، خفيف الحَوْرِ، أجلس فيه مستنداً إلى قزحي سحابة،/ وظهر عريشة، عند الكتابة. (المحبرة: ص. 11-12)
تتفاعلُ، ههنا، عناصرُ الصُّورةِ، عبر شبكةٍ بنائيَّةٍ شديدةِ التَّنَوُّعِ والتَّعَدُّدِ فيما بينها؛ لتقدِّمَ، بتفاعلها الوجوديِّ هذا، عالَماً قائماً بذاته، هو محراب الشَّاعر في هيكل شاعريَّته؛ إذ يتزاوج فيه الواقعي بالجمالي لإعطاء مضمون «أسطوريٍّ-ملموس» في آن. وهذا المضمون «الأسطوريُّ-الملموس»، هو ما يضع الشَّاعر في أهليَّة مطلقةٍ لمراجعة ما قام به «الكون» وتقييمه. فمن كانت يَدُهُ الرِّيح، بكلِّ ما للِّريح من صُوَرٍ، ومن كانت طاولته اللَّيل، بكلِّ ما للَّيلِ من عُمقٍ وسِحرٍ، ومن كانت أوراقه الغَيْم، بكلِّ ما للغَيْمِِ من انتشارٍ، ومن كانت أقلامه من عَبَقِ الصَّندلِ وحبرهُ من قَطْرِ البنفسج، بكلِّ ما للصَّندلِ من نفاذٍ وكلِّ ما للبنفسجِ من زُرْقَةِ السِّحرِ وغموضه، ومن كان القمرُ، بشاعريَّة ضيائه وأسرار تحوُّلاته وتأثيراته، شمعته، ومن كان أيلول كرسيه، بكلِّ ما لسطوة شهرِ أيلول من قدرة على التَّبديل والتَّغيير، ومن كان مسنده قوس قزحٍ بكلِّ ما لقوس القزح من اتِّساعٍ وانتشارٍ، حقَّ له، إنْ لَمْ يَكُنْ قد وَجَبَ عليهِ، أن يقرأَ كتابَ الكون ويَحْكُمَ عليهِ، بَلْ أن يُنَقِّحَ فيهِ ويُضيف إليه!
ثمَّة أنموذجٌ آخر للصورة ضمن «المحبرة»، لعلَّه يُشَكِّلُ إشارةً إلى ما يمكن وسمه بـ «الصُّورة الومضة»؛ الصُّورة التي تشبه وميض البرق السَّريع المضيء المنير المفصح لبعض ما ينيره بأضوائه والمخفي للبعض الآخر بسرعة انطفاء ما ينير به؛ فيضحي من يشهد هذا البرق في فضاء السِّحر الدَّاعي إلى فتح آفاق الخيال والتبصُّرِ معاً..
كل ما في الكون من نار،/ وإعصار، وفيض مالح،/ يولد فيكْ/ عندما لذَّات جسمي/ تشتهيكْ.
(المحبرة: ص. 416) ومثل هذا، أيضاً:
لاح
هذا الكون كباب ذي قفلٍ،
فتقدَّمت المرأة حاملة
أوَّل
مِفتاح.
(المحبرة: ص. 454)
إضافة إلى كلِّ ما سبق، فإنَّ جوزف حرب يقدِّم، عبر «المحبرة»، أنموذجاً عن ما يمكن وصفه بـ «الصُّورة الدراميَّة» القائمة بناء درامي تصاعدي يقدِّم حركة دراميَّة متكاملة تنهض على حدث مركزي تتالى تحرُّكاته تتصاعداً وتأزماً لتنتهي بقمَّة مأساويَّة شاملة هي، بحدِّ ذاتها، حضور إنساني أخَّاذ:
إثنان/ كلٌّ منهما يتَّهم الآخر./ توضع/ قصعتان،/ إحداهما مسمومة،/ بينهما سهمٌ، وعنكبوت./ يأخذ كلٌّ قصعة، يأكلها،/ ويصبح الجاني الذي يموت/.
(المحبرة: ص. 802)
ولجوزف حرب، فيما له ضمن المحبرة، أنموذج آخر من الصُّورة لعلَّ أفضل ما يمكن تعريفه به أنّضه «الصُّورة الحكاية». فالصُّورة، في هذا المجال، حكاية، بكل ما للحكاية من عناصر وكل ما للحكاية من إيحاء وتشويق وجمال:
هذي
البراري
الغيم صاحبها،
ودواته،
فيها يذوبها.
يمضي شهوراً
في كتابتها،
وكَوَشيِ شيراز
يرتِّبها.
كزمرّد،
يجري بأخضرها،
وكخمر دير النَّاي
يسكبها.
والورد
يعصر فيه
حمرته
شمساً
عليها
ذاب مغربها.
يمحو، ويحذف،
أو ينقِّح،
كي
يبقى بها
في الرِّيح
أطيبها.
فإذا مضى عام،
يمزِّقها
برياحه،
ويعود يكتبها.
(المحبرة: ص. 1376)
الصُّورة في «محبرة» جوزف حرب، كما في سائر نتاجه، جمال في موجوده الكُلِّي المطلق، بل هو جمال في جوهر وجوده وحقيقة هذا الوجود؛ إنَّه عيش شاعرٍ مفكِّرٍ جماليٍّ يعيش ويحلم ويرى ليبني من الفكر والرُّؤيا وجوداً لحقيقة الحياة ينبثق من فَيْضِ الشَّاعريَّة.
دراسة فنيَّة الصُّورة في شعر جوزف حرب ما زالت طفلاً يحبو في عالم البحث والتحليل؛ وما هذه إلاَّ نُتَفٌ من مجرَّد إشارات إلى ما يمكن أن يُساهم في إثارة المزيد/البحر من عَمَلٍ على العيش الشِّعري الذي يحياهُ جوزف حرب ويقدِّم عبره الصورة الشعريَّة فضاءَ عطاءٍ مضمونيٍّ جماليٍّ في أُفُقِ التَّجربةِ الشِّعريَّةِ العربيَّة منها والإنسانيَّة.
الدكتور وجيه فانوس. أستاذ جامعي. ناقد أدبي. مدير المركز الثقافي الاسلامي
المصدر :"اللواء"

بيروت-الطقس