Alayyam - الأيام

عبد المجيد زراقط - النَّص القَصَصي في كتاب البخلاء/جريدة الأيام الإلكترونية .

عبد المجيد زراقط - النَّص القَصَصي في كتاب البخلاء/جريدة الأيام الإلكترونية


 2725 | | | Admin



جمالية الرِّسالة القصصية.. النص القصصي في كتاب البخلاء
الدكتور عبد المجيد زراقط :
يعدُّ بعض الباحثين النَّص القصصي، في كتاب "البخلاء" للجاحظ ، قصَّة قصيرة . هذا التَّصنيف غير صحيح، ذلك أنَّ القصَّة القصيرة نوع قصصيٌّ حديث ، وقد استُخدم قديماً مصطلح الرِّسالة القصصية ، ليدلَّ على هذا النَّوع من القصِّ ، وسوف نتبنَّاه هنا ، محاولين ،في ما يأتي ، تبيُّن ما يتميَّز به من خصائص أدبية تمثِّل جماليتة . من هذه الخصائص :
1- مادَّة القصِّ :
المادَّة القصصيَّة الأوَّليَّة ، في قصص كتاب البخلاء ، مأخوذة/"مُلتَقَطَة" من الحياة الواقعية اليوميَّة المعيشة، وهي مادَّة مختارة ممَّا سمعه الجاحظ أو رآه وخبره . وأصحابها معروفون، ومعرفتهم تضيف إليها حسناً ، يقول الجاحظ في هذا الصَّدد : "هذه مُلتَقطات أحاديث أصحابنا وأحاديثنا وما رأينا بعيوننا "، (كتاب البخلاء , بيروت , دار الهلال , ص. 195) " .
والشخصيات التي تُروى قصصها حقيقيَّة ، نذكر منها على سبيل المثال، ما يأتي:
الحرامي: أبو محمد عبد الله، أحد البخلاء. الكندي: أبو يوسف، يعقوب بن اسحق الكندي الفيلسوف العربي، اشتهر بالبخل. سهل بن هارون: أبو عمرو، أحد كتَّاب العصر العباسي...
يستخدم الجاحظ، بغية جعل "مُلتقطاته"، اللحظات النَّادرة – "المهمَّة" من الحياة ، وقائعية، الألفاظ الخاصَّة بكل فئة من فئات شخصيَّاته، ويفسِّرها، ليُفهم القارئ معناها . ومن نماذج ذلك نذكر: الفانيد (فارسي معرَّب، حلواء) . الخزيرة (حلواء) .
2- عجز الكتابة وإثارة تخيُّل القارئ :
تمثِّل واقعيَّة المادَّة القصصيَّة عنصراً من عناصر جودتها؛ إذ يطيب جداً، كما يقول الجاحظ ، إذا رأيتَ الحكاية بعينك... ويقرُّ الجاحظ بأنَّ الكتابة تعجز عن تصوير كلِّ شيء (ص. 87)، فلا بدَّ للقارئ من التخيُّل، وبغية توفير هذا العنصر يحرص على أداء القصِّ بلغة شخصيَّات القصَّة، فيقول على سبيل المثال: "وإن وجدتم، في هذا الكتاب، لحناً أو كلاماً غير مُعرَب، أو لفظاً معدولاً عن جهته ، فاعلموا أنَّا إنَّما تركنا ذلك لأنَّ الإعراب يبغِّض هذا الباب ويخرجه من حدِّه ... (ص. 677).
-3- غرائب وأعاجيب ونوادر...:
يسمِّي الجاحظ ما يختاره "مُلتَقَطَات"، أي أنَّه يتلقط الحدث الدَّالَّ، أو ما يسمَّى، بلغة النقد الحديث ، اللحظة المهمَّة الكاشفة واقعاً أو شخصيَّة أو موقفاً ، ويسمِّي هذه الملتقطات التي يختارها "غرائب"، و"نوادر"، و"أعاجيب" .
4- مشاكلة القصص والأحاديث :
وهو، إذ يروي الغرائب والأعاجيب والنَّوادر، يحرص على أن يتَّصف ما يرويه بما يسمِّيه مشاكلة الأحاديث بعضها لبعض، فيقول على سبيل المثال: "وليس هذا الحديث من حديث المرَاوِزَة ولكن ضممناه إلى ما يشاكله" (ص. 50)، "وليس هذا الحديث لأهل مرو، ولكنه من شكل الحديث الأوَّل" (ص. 38).
5- البناء القصصي : السَّند/الرَّاوي والمتن :
يتألَّف بناء كلِّ قصَّة من سند ومتن . السَّند، في قصص البخلاء، بسيط ، يتمثَّل في محدِّث/راوٍ واحد يروي للمؤلِّف الذي يؤدِّي القصَّ من منظوره. والرَّاوي/السَّند شخص حقيقي معروف من أصحاب المؤلِّف ومحدِّثيه ، مثل ثمامة بن الأشرس وإبراهيم بن سيَّار النَّظام. يروي الرَّاوي المحدِّث مادَّة قصصيَّة واقعيَّة، فيرويها الرَّاوي/المؤلِّف، فيشكِّل بناءً قصصيَّاً متخيَّلاً ذا مرجع واقعي، على مستويي السَّند والمتن ، فالقصَّة المدوَّنة، هنا، تخلَّصت من الإسناد الموثَّق المعروف ، واكتفت بإسنادٍ يقدِّم الحكاية، ما يعني تقديم نصوص قصصية ذات مرجعية واقعية ، على مستويي السَّند والمتن يؤدِّيها راويان: أوَّلهما يؤدِّي الحكاية ، وثانيهما ينشئ القصَّة ، أي يقيم البناء القصصي المتخيَّل من هذه الحكاية . وفي كثير من القصص يروي الرَّاوي ، وهو المؤلِّف، عمَّا شاهده هو، فيكون هو السَّند ، وهذا يعني أنَّه يمكن تقسيم سند القصِّ إلى ثلاثة أقسام : أوَّلها محدِّث المؤلِّف، وثانيها المؤلِّف نفسه، وثالثها من دون سند.
يؤدِّي السَّند وظيفة إثبات صدقيَّة القصَّة/الحديث والإقناع بها، كما أنَّه يتَّبع تقليداً كان سائداً في زمن كانت الشفوية فيه مصدر الثقافة، وكان لا بدَّ من المرور بمرحلة يتمُّ فيها التخلُّص من آثارها ، وقد أدَّى الجاحظ دوراً في هذا المجال. ويبدو أنَّه كان يحرص على إقناع المتلقِّي بصدقيَّة حديثه، فعندما يجد حاجة إلى ذلك يأتي الإسناد مركَّباً، ومن نماذج ذلك قوله: "حدَّثني أحمد بن المثنى عن صديق لي وله ، ولقد رأيته..." (ص. 84 و85). والرَّاوي/المؤلِّف يروي ما يحدَّث به من منظوره، ويتدخَّل في حالات كثيرة، فيعرِّف ، أو يشرح ، أو يستنتج، أو يفسِّر، أو يلحظ المبالغة ولا يقبلها، يروي عن خالد بن يزيد أنه كان يمسح اللقمة بالجبنة، فيترك فيها أثراً، ولما جاء ابنه قال: "أضعها من بعيد، فأشير إليها باللقمة"، ويعلِّق: "ولا يعجبني هذا الحرف الأخير" (ص. 175).
يتدخَّل الرَّاوي، كما يبدو، في حالات كثيرة، لكنه يكتفي بالتعريف والشرح والتفسير وملاحظة المبالغة، ولا ينصح ولا يعظ، ولا يعلن رأياً أو موقفاً مباشراً، وإنما يبقى موضوعياً حيادياً، يروي، ويترك للمتلقِّي أن يتبيَّن الدَّلالة. وقد يشير إليها فيعجب مما يحدث .
6 – النَّوع القصصي : الجاحظ، إذ يختار/يلتقط الحدث الواقعي الغريب العجيب الذي يبلغ فيه صاحبه مبلغاً لم يبلغه أحد، فيُكثر النَّاس الكلام عليه، ويراه أصحاب البخل فضلاً، وإذ يحرص على أن تتوافر المشاكلة في الأحاديث التي يرويها، يؤدِّي هذا الحدث تحت عدَّة عناوين، فيستخدم مصطلح قصَّة وحديث وطرفة، ويغفل ذكر هذه المصطلحات، أحياناً، فيكتفي بذكر الاسم، وقد يضيف طُرفة إلى الاسم في موضع، ثم يكتفي بذكر الاسم في موضع، ثم يكتفي بذكر الاسم في موضع آخر، فقد ورد في مقدِّمة الكتاب: "طُرَف أهل خراسان"، وفي المتن "أهل خراسان"، ولعله لا يميِّز القصَّة من الحديث، فيقول، على سبيل المثال، في عنوان إحدى القصص: "قصة محمد بن أبي المؤمل" (ص. 127) ، وعندما ينتهي من سردها يقول: "فهذا ما كان حضرني من حديث ابن أبي المؤمل" (ص. 137). لكن يلاحظ أنَّ الحديث يبدأ بـ"قال"، وأنَّ القصَّة تتضمَّن مجموعة أخبار عن الشخص، وأنَّ القصَّة التي تُعنون باسم الشخص تتضمَّن مجموعة أخبار ترسم شخصيَّة، وأنَّ الطرفة تتمثَّل في خبر قصير ، يثير مفارقة كاشفة أو تضاداً لافتاً، كما في الطُّرفة الآتية: "قيل لرجل من العرب: قد نزلت بجميع القبائل فكيف رأيت خزاعة؟ قال: جوع وأحاديث" (ص. 104). فهذه الثنائية: جوع وأحاديث تكشف واقع هذه القبيلة التي تعاني من الفقر، وتداويه بالحكي، فالحكي يعوِّض الفَقْد الذي لم يتمَّ تعويضه بالفعل، فالعجز، هنا، هو الذي يولِّد الحكي الكثير.
ويمكن القول: إنَّ هذه القصص جميعها تندرج تحت عنوان الرسالة القصصية التي تتضمن مجموعة من القصص هي قصص إطار، فيكون الإطار إمَّا مجموعة شخصيات كـ"أهل خراسان" و"قصَّة أهل البصرة بين المسجدييين" أو شخصيَّة معيَّنة، كقصَّة زبيدة بن حميد أو الكندي أو خالد بن يزيد... أو مفارقة كاشفة تمثُّلها طرف شتَّى، مثل الطرفة التي ذكرناها قبل قليل، ونعدُّها أنموذجاً لهذا النَّوع من القصص ، لن نكرِّر الحديث عنه فيكون الإطار طرافة الحدث .
وهكذا، كما يبدو، يتشكَّل نوع أدبي يتَّخذ شكل رسالة قصصية، أو رسالة - قصة ، تنتظم في إطارها قصص اطار ، تنتظم في اطارها قصص قصيرة جدا . ويتضمن الاطار خطاباً تحت عنوان واحد : موضوع واحد . يُستخدم ، في هذا الخطاب ، الجدل والخبر ، أو الآية القرآنية الكريمة، أو الحديث الشريف، المؤيِّد للنتيجة التي ينتهي إليها هذا الجدل . وتحكي القصص أخباراً تكشف الظاهرة الاجتماعية الغريبة : البخل .
7- الوحدات السَّرديَّة/الوظائف :
تبدأ القصَّة/الإطار: قصة المسجدييين،
على سبيل المثال ، بالتعريف بالمسجدييِّين وبما يجعلهم جماعة ، ما يدفعهم إلى التذاكر والتَّدارس؛ ذلك أنَّ "مذاكرة الرجال تلقح الألباب" (ص. 59)
. يتذاكر المسجديُّون بغية تحصيل المتعة والفائدة، فيتشكَّل إطار القصِّ ويسوَّغ أداؤه.
ويبدأ الرَّاوي بقصة: "الحمار والماء الأجاج". الرَّاوي شيخ منهم، لا يسمَّى، ما يدل على حالة، وهو شخصية مشاركة.
وفي قصة: مريم الصناع، يؤدِّي القصَّ شيخ آخر، وهو راوٍ حيادي، عليم، يبدأ بسؤال يؤدِّي وظيفة التعريف بالمرأة، فهي امرأة عاديَّة لم يشعر أحد بموتها...، يسوِّغ هذا التعريف الحديث عنها، ويثير فضول المستمعين وتشوُّقهم .
وفي قصَّة: "ماء النخالة" يبدأ الراوي بخطاب يؤدِّي وظيفة التعريف، ثم يلي الفَقْد المتمثِّل بالسعال، فتعويض الفَقْد بماء النخالة، فتعريف هذا الماء ...
8- خصائص البناء القصصي :
تفيد قراءة هذا الأنموذج من نماذج القصَّة الإطار أنَّ بناءها القصصي يتمثل في ما يأتي:
قصص إطار تنتظم في إطار رسالة، موضوعها واحد.
قصص تنتظم في إطار القصة الإطار، بغية تحصيل الفائدة والمتعة، من مذاكرة الرجال.
تعدُّد الرواة، وكلٌّ منهم شخصية مشاركة في القصة الإطار، وموضوعها مذاكرة الرِّجال، وتنوُّع الرُّواة في ما يتعلق بكل قصَّة بين الرَّاوي المشارك والراوي العليم ، وتعددهم... اضافة الى الراوي كاتب الرسالة .
تشكيل بنية كل قصة من الوحدات السردية/الوظائف الآتية: التعريف، الفَقْد، اتخاذ القرار لتعويض الفَقْد، الخروج إلى تنفيذ القرار، الإنجاز، عظمة الإنجاز/تميز الشخصيَّة. توفيق الله: هذا فتح إلهي، تدبير سماوي، تقرير خطاب "الإصلاح" وتأكيده، تعليق المسجدييين المتحدِّثين.
قد يختلف نظام ظهور الوحدات/الوظائف، ولكن هذه هي الوحدات الأساس التي تشكِّل بنية النص السردي.
ويلاحظ، في هذه القصص، دقة اللفظ، وقصر العبارات وتوازنها والسرد المسبَّب النامي بفعل العوامل الداخلية.
9-الشخصيات :
شخصيات قصص البخلاء شخصيات حقيقية، كانت معروفة في زمانها، ومشهورة، وبعضها من الشَّخصيات العامة الأدبية أو الفكريَّة أو السياسيَّة. يسمِّي الجاحظ بعض هذه الشَّخصيات، ولا يسمِّي بعضها الآخر.
تتصف هذه الشَّخصيات ليس بالظرف فحسب، وإنَّما بالطِّيبة وطول الرويَّة وبيان الحجَّة وحضورها وعمق الرؤية، علاوة على الثراء، في الغالب .كما تتَّصف بإعمال العقل، والجدل، أو بـ"آلة علم الكلام"، وبهذه الميزة كانت تتفاضل .
10- تقنيَّات قصصيَّة :
من التقنيات القصصية التي يتبيَّنها القارئ ،في هذه القصص , نذكر : وصف الشخصية وهي تعمل/السَّرد التصويري , ومن نماذجه : "ودقَّ عليه الباب دقَّ واثق، ودقَّ مُدلّ، ودقَّ من يخاف أن يدركه العسس أو أحد يتبعه، وفي قلبه من الخوف ما يزيد عن الكفاية... " (ص. 65 و66) والتصوير السردي . الرَّاوي لا يقول، وإنَّما يترك للوصف أن يقول، ومن نماذج ذلك نذكر الوصف الدال على البخل : دخل جعفر بن يحيى على الأصمعي، "... فرأى حُبَّاً (جرَّة صغيرة) مقطوعة الرأس، وجرَّة مكسورة العروة، وقصعة مُشعَّبة، وجفنة أعشاراً، ورآه على مصلَّى بالٍ، وعليه برَّكان أجرد، (ص. 265). وهكذا يبدو الجاحظ كأنَّه يرسم المشهد. وتتميَّز كتابته بالتصوير الساخر، الفكه، الحسِّي، القائم على الثنائيات والانزياح إلى الرسم الكاريكاتيري بالكلمات... والمَشْهَدة المتمثلة برسم المشهد، كما في قصة أبي جعفر الطرسوسي، وهي طرفة قصيرة . يرى بعد أن يرويها أنَّ رؤيتها بالعين تجعلها "تطيب جداً، "لأن الكتاب لا يصور كلَّ شيء، ولا يأتي على كنهه، وعلى حدوده وحقائقه". وفي هذا إشارة إلى تشكيل المشهد، وإثارة خيال القارئ ليتصوَّره مجسَّداً أمامه . والمناجاة التي يتَّخذها خطاب البخيل، في عدة حالات . والبنية المحكمة ، فقصُّ الأحداث يأتي متَّسقاً ، يتتتابع بعضه في أثر بعض ، جيِّد السِّياق، وهذا هو معنى السَّرد في الأساس. ويبدو هذا الإحكام واضحاً كذلك في دقَّة أداء اللَّفظ وجودة اختياره . والأسلوب الأمثل في الكتابة. ومن أبرز مزاياه: الصَّنعة والوضوح، والإبلاغ .والإيجاز، و التوازن، والازدواج. ويعني التوازن تعادل الفواصل ومساواة الواحدة منها للأخرى .
ولما كانت غاية الكتابة الفهم والإفهام، كان الحرص على الكشف، من نحو أول، وعلى الإيصال والتَّأثير من نحوٍ ثانٍ
يتيح ماسبق القول : كتاب البخلاء مرحلة من مراحل تطوُّر القصص العربي القديم, يتصف بخصائصه المميزة ، وقد كان له تأثيره على تطوُّر القَصص العربي القديم بخاصة , وعلى النثر العربي ، في جميع عصوره بعامة . والحديث، في هذا الشأن يطول .
د. عبد المجيد زراقط.
* كاتب وناقد وقاص. أستاذ الدراسات العليا في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية
المصدر :د. عبد المجيد زراقط
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية

بيروت-الطقس