Alayyam - الأيام

عبد المجيد زراقط.. دور أبي ذر الغفاري في تشيُّع جبل عامل/جريدة الأيام الإلكترونية .

عبد المجيد زراقط.. دور أبي ذر الغفاري في تشيُّع جبل عامل/جريدة الأيام الإلكترونية


 3274 | | | Admin



عبد المجيد زراقط :
تعدُّ قضيَّة نسبة تشيُّع جبل عامل الى دورٍ أدَّاه الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري ( رض ) من القضايا الخلافية بين المؤرِّخين ، وتكاد تكون من المسلَّمات لدى كثير من عامة الناس ، يتناقل التسليم بها الابن عن الأب ، منذ قديم الزمان .
يمكن تصنيف الاَراء ، في شأنها ، في ثلاثة اتجاهات هي :
1-القائل : هذه النسبة صحيحة ، وأوَّل من دوَّن هذا الرأي الشيخ محمد بن الحسن ، الحر العاملي (١٠٣٣ - ١١٠٤ هج/ ١٦٢٤- ١٦٩٣م. ) ، في كتابه : " أمل الاَمل ... " ، حيث كتب : " وفي زمن عثمان ، لمَّا أخرج أبا ذر الى الشام ، بقي أياماً ، فتشيَّع جماعة كثيرة ، ثم أخرجه معاوية الى القرى ، فوقع في جبل عامل ، فتشيَّعوا من ذلك اليوم " . وتبنَّى هذه المعلومة المؤرِّخ محمد جابر اَل صفا (ت. ١٩٤٥ م. ) ، فكتب : " والتشيُّع ، في جبل عامل قديم ، من عهد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري " ، وأيَّده في هذا الرأي الشيخ أحمد رضا ( ت. ١٩٥٤ )، واَخرون .
2-القائل : لا يوجد دليل تاريخي يؤيِّد صحة هذه النسبة ، ومن القائلين بهذا الرأي الشيخ جعفر المهاجر الذي عدَّها ، في كتابه " التأسيس لتاريخ الشيعة في لبنان وسوريا " ، " أسطورة " ، والشيخ علي حبَّ الله الذي ألَّف كتاباً في هذا الشأن سمَّاه " أسطورة نسبة التشيُّع في جبل عامل الى أبي ذر الغفاري " . والمقصود بالأسطورة ، هنا ، ليس معناها العلمي ، وانما معناها المتداول شعبيا ، أي أنها وليدة التخيُّل ، وكثيرون غيرهما . يعيد هؤلاء بداية تشيُّع جبل عامل الى " المدِّ الفاطمي " ، الذي حدث سنة ٣٥٨ للهجرة .
3. الرأي القائل : لانقطع برأي نهائي ، فيقول السيد محسن الأمين : " ان صحَّ أنَّ تشيُّع جبل عامل من زمن نفي أبي ذر الى الشام ، لم يكن أسبق منهم الى التشيُّع سوى بعض أهل الحجاز " . ويقول نجله المؤرِّخ السيد حسن الأمين : " ليس لدينا مستند تاريخي ، ليس لدينا الاَّ هذه الشهرة الموروثة عن أسلافنا " . وكان الشيخ محمد تقي الفقيه قد عدَّ هذه النسبة ، في كتابه. : "جبل عامل في التاريخ " ، من المسلَّمات . ثم غيَّر رأيه بعد اطلاعه على كتاب نجله الشيخ محمد جواد الفقيه ، الوارد في هامش الصفحة ٢٤ ، من طبعته الثانية .
يحتاج ترجيح رأي ، من هذه الاَراء الثلاثة الى أدلَّة يُعتدُّ بها .
في ما يأتي نحاول تقديم ما يتوافر لدينا من هذه الأدلَّة ، مايتيح لنا تقديم تصوُّر ينطلق منها ، ويكون موضوعاً للتَّداول والنِّقاش .
وقبل ذلك ، ينبغي أن نقرِّر أنَّ المقصود بالتشيُّع ، اَنذاك ، ليس التشيُّع المذهبي ، وانما تأييد الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام )، والتشيُّع له ولنهجه ومعارضة السلطة الحاكمة في ذلك الزمن .
وهذه الأدلَّة هي :
شيوع المعلومة وشهرتها وقِدَمها وتوارثها ، لم يأت من فراغ ، وان كان تخيُّلاً شعبيَّاً ، فانَّه من البدهي أن يكون لهذا التخيَّل أصل واقعي صدر عنه .
صحيح أنَّ رواية الحر العاملي ، المذكورة اَنفاً ، جاءت متأخِّرة ، وصحيح أيضا أنَّه لم يؤيِّدها بسند تاريخي ، لكنَّ الصحيح كذلك أنَّه أحد كبار العلماء المجتهدين ، و" شيخ المحدِّثين الثِّقة ...الورع... " كما وُصف ، و" قاضي قضاة خراسان" ، و" شيخ الاسلام "، وصاحب أكبر موسوعة في الحديث الشريف : " وسائل الشيعة الى تحصيل مسائل الشريعة " ، ورواياتها تُعتمد مصدراً من مصادر التشريع .
أبو ذر الغفاري ( رض ) صحابي جليل ، عارض من منظور اسلامي ، نهج السلطة الحاكمة ، وكان من شيعة الامام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ). السؤال الذي يُطرح هنا هو : هل كانت له علاقة بجبل عامل وسكانه تسوغ القول بأنهم تشيعوا ، وبأنه أدَّى دوراً في تشيُّعهم ، جعلهم ينسبون هذا التشيُّع اليه ؟
للإجابة عن هذا السؤال ، نقدِّم الوقائع الاَتية :
شارك أبو ذر ( رض) في معركة اليرموك هو وعدد من الصحابة الذين كانوا من صحابة الامام علي ( عليه السلام ) ، والمتشيِّعين له ، ومنهم عمار بن ياسر والمقداد بن الأسود الكندي .
كان أبو ذر في عداد الجيش الذي فتح مدينة صور ، وشارك في فتح بيت المقدس والجابية ، وقبرص .هذه الحروب و الفتوحات حدثت بين سنتي ١١ و٢٨ للهجرة . ألا يجعلنا هذا نفترض أن هذا الصحابي الثائر كان ينشط بين الجنود ، وبين سكان تلك المناطق التي كان يمرُّ بها أو يقيم فيها، وخصوصاً أنَّ لدينا دليلاً يفيد أنَّه كان في الجيش ميل له . يقول علي أبو الحسن بن بطال( ت. ٤٤٩هج )، في "عمدة القارئ" للعيني : " انما كتب معاوية يشكو أبا ذر ، لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له ، وكان في جيشه ميل لأبي ذر " (الغدير ، ٨/ ٤٥٦) . - نفى الخليفة عثمان بن عفان ، في مابعد ، أبا ذر الى الشام ، لأنه لم يعد يطيق نشاطه المعارض . وفي الشام واصل أبو ذر نشاطه ، فضاق به معاوية ونفاه الى جبال عاملة (اعيان الشيعة ، ٤/ ٢٣٨) . ولما خشي معاوية نتائج نشاط الصحابي الثائر ، المحبوب ، في القرى ، طلب من الخليفة أن يعيده الى المدينة كي لا يفسد عليه رعيته .
سأل أبو الأسود الدؤلي أبا ذر، عندما عاد هذا الى المدينة المنوَّرة : أين كنت ؟ فأجابه : كنت في ثغر من ثغور المسلمين ، وثغور المسلمين ، اَنذاك هي : عكا وصور وعدلون والصرفند ...
من البديهي أنَّ أبا ذر( رض) لم يكن ينشط وحيداً ، ومن البديهي ايضاً أنه تمكن من أن يحظى بتأييد كثير من الناس ، كان من بينهم أنصار ناشطون ، وخصوصاً أنَّ جبل عامل كان ، اَنذاك ، مكاناً ملائما لنجاح هذا النشاط .
تفيد هذه المعطيات أنَّ فرصاً أتيحت لأبي ذر ( رض) أن يتصل بأبناء جبل عامل ، وأن ينشط بينهم .
٣- جبل عامل ، في ذلك الزمن ، كان منطقة جبلية حرجية ، صعبة المسالك ، بعيدة عن طرق المواصلات ، ليس فيه أرض خصبة ولا ينابيع وأنهار ، تثير الطمع به وتعل الناس يفضلون الاقامة فيه . وهذا يفيد أنه كان منطقة نائية يصعب العيش فيها ، ولهذا كانت ملاذاً للخارجين على السلطان ، ومنفى لمن يريد هذا السلطان أن يبعدهم عن الاتصال بالناس . منذ القديم جدا كان هذا . يقول د. يوسف الحوراني ، في كتابه : " المجهول والمعلوم من تاريخ الجنوب اللبناني ( جبل عامل ) عن الخارجين على السلطان ، في زمن ماقبل الميلاد : " وهذه الملاجئ كانوا يجدونها بين اَكام لبنان الجنوبي وأوديته " (ص٣٣). ومن المعروف أنَّ الجليل كان ملجأ لتلامذة السيد المسيح ، ومنهم وصيُّه شمعون الصفا . وفي التاريخ الاسلامي ، يقول ياقوت الحموي : " كان من عادة معاوية أن يحبس في موضع من هذا الجبل مَن يظفر به ممَّن ينبز بقتل عثمان بن عفان "، ومن هؤلاء محمد بن أبي حذيفة وكريب بن أبرهة ( راجع للتفصيل في هذا الشأن : معجم البلدان ، ٢/ ١٥٨ و أسد الغابة ، ٥/ ٨٧ ومراصد الاطلاع ، ١/ ٣٤٤ و وتاج العروس ، ٧/ ٣٦١). ويحدد ابن الأثير الجزري الموضع الذي لقي فيه محمد بن أبي حذيفة مصرعه ب" جبل الجليل " ، فيقول : " قال أبو نعيم : هو أحد من دخل على عثمان حين حوصر ، وأُخذ بجبل الجليل ، جبل لبنان " . وممن لجأ الى جبل عامل من شيعة ذلك الزمن عبد الرحمن بن عديس البلوي ، قتل في جبل عامل سنة ٣٦ للهجرة ، في مكان مازال يحمل اسمه الى اليوم ، وهو قرية العديسة .
ولما كان جبل الجليل متصلا بجبل عامل ، ويكوِّنان معاً منطقة واحدة ، يمكن القول : انَّ هذه المنطقة كانت ، في اَونة مبكرة من التاريخ الاسلامي ، مكاناً يقصده الشيعة ، المطاردون من السلطة ليجدوا فيه ملاذاً لهم ، كما أنَّ السلطة كانت تنفي الثائرين عليها اليها ، ماجعلها ملاذاً معروفا ومقصوداً
. واستمر هذا طوال تاريخ هذا الجبل ، ومن الأدلة على ذلك أن فرقة اسلامية شيعية لجأت اليه ، وأعطت المكان الذي لجأت اليه اسمها ، ومازال يحمله الى اليوم ، وهو قرية الزرارية التي تنسب الى فرقة زرارة بن أعين ، صاحب الامام جعفر الصادق(ت. ١٤٨هج)
وفي زمن تال ، يقول شيخ الربوة ( وقد فرغ من تأليف كتابه سنة ٧٩٥للهجرة ) : " وبه من حصون الدعوة التي يدعوها الملاحدة والباطنية والقرامطة ..." . ومصطلحاته في وصف أصحاب الحصون تمثل رؤية أصحاب السلطان في ذلك الزمان . ويقول أبو الفداء ، في تقويم البلدان : " وكان أهله عصاة ، فبنى لهم أسامة حصن عجلون ..." . ( راجع للتفصيل ، في هذا الشأن : د. قيصر مصطفى ، ص. ١٩ و٢٠ ) . وهذا يجيب عن السؤال الاَتي : لماذا انحسر التشيُّع ، بعد زوال الدولة الفاطمية من معظم بلاد الشام ، وبقي في جبل عامل؟
الجواب هو : بقي التشيُّع في جبل عامل ، لأنَّ هذا الجبل كان الملاذ التاريخي الذي يصعب القضاء على ساكنيه لأسباب منها طبيعة المكان ، ومنها طبيعة السكان ، وممن لجأ اليه بعد زوال الدولة الفاطمية شيعة من سوريا ولبنان ومصر ... ، ومن كل مكان لم يعد العيش محتملاً فيه . كانت قبيلة عاملة تسكن هذا الجبل ، ومنها اكتسب اسمه . يتحدث د. يوسف الحوراني عن هذه القبيلة فيقول ، نقلا عن ابن الأثيروالطبري والمسعودي : اقترن ذكر قبيلة عاملة التي شغلت أرض الجنوب اللبناني بانتسابها للعماليق ، وقد ورد اسمها في لوحة " نمرود " ، باسم " عاملاتو " العائدة للقرن الثامن قبل الميلاد، ويقول : انَّ " الزباء" من أهل بيت عاملة من العماليق ...( راجع للمزيد : تاريخ الأمم والملوك للطبري ، ١/ ٦١٧ ، والكامل لابن الأثير ، ١/ ١٩٨ ، ومروج الذهب للمسعودي ، ٢/ ٦٩ ) . وهذا يؤيِّد ماذهبنا اليه من مزايا سكان هذا الجبل . وفي الفتوح الاسلامية قاتلت بطون من عاملة مع الروم ، وقاتلت بطون أخرى مع المسلمين ، والبيِّن أنَّها لم تتخذ ابَّان الخلافة الأموية الموقع الذي اتخذته قبائل أخرى ، مثل قبيلة كلب ، مع أهميتها التي ذكرناها اَنفا ، وهذا يفيد أن أبناءها أو بعضاً منهم كانوا مؤهلين لسماع الخطاب المعارض للسلطان وتأييد هذا الخطاب وأصحابه .
مايؤيد نفي المعارضين الذي تحدثنا عنه اَنفا ، المعلومة الاَتية : أجلى معاوية الزط والسيابجة الى بلاد الشام ، وكان هؤلاء موالين للإمام علي ( عليه السلام ) ( مجمع البحرين ، ٢/ ٢٧٦) .
مايفيد بوجود شيعة في منطقة الجليل – جبل عامل رواية وردت في كتاب الفضائل لشاذان بن جوائيل القمي ، مسندة الى عمار بن ياسر وزيد بن الأرقم مفادها : كان ، في زمن خلافة الامام علي ( عليه السلام ) قرية في الشام ، عند جبل الثلج ، تسمى أسعار ، موالية للإمام علي ( عليه السلام ) ، وقد أتى وفد منها قوامه ألف فارس الى الكوفة ( أحسن التقاسيم ، ص. ١٤٠) . ٧
يوجد ، في جبل عامل ، مقامان ينسبان الى أبي ذر : أولهما في ساحله ، في الصرفند ، وثانيهما في جبله ، في ميس الجبل . وهذان دليلان ماديان يفيدان أنَّ تسمية كلٍّ منهما باسم أبي ذر دليل على وجود دور له في تشيُّع جبل عامل ، والاَّ لمَ تمَّ اختيار هذا الصحابي ، ولم يتم اختيارأحد الأئمة ، أو أي صحابي اَخر ، أو الخليفة المعزّ مثلا من الخلفاء الفاطميين ، ان صدق القول بأنَّ تشيُّع جبل عامل فاطمي . ولمن يرى أنَّ طراز البناء مملوكي أوعثماني ، فهذا يدلُّ على اهتمام الناس بالمقامين ومواصلة ترميمهما .
في ضوء ماسبق ، يمكن صوغ تصوُّر مفاده أنَّ الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري ( رض)، الثائر على السلطة الحاكمة ، والمتشيِّع للإمام علي ، والناشط في بث دعوته ، أتيح له أن يتصل بنخبة من أبناء جبل عامل ، وأن يعمل على نشر دعوته بينهم ومعهم ، وقيِّض له نجاح في ذلك ، فأقيم مقامان باسمه، أو مقامات بقي منها هذان المقامان ، ونُسب تشيُّع أبناء هذه المنطقة اليه ، وعُرف ذلك منذ ذلك الزمان وشُهر ، وتناقله الناس جيلاً بعد جيل ، وكان هذا معروفاً ومشهوراً في زمن الحر العاملي ، فدوَّنه بوصفه حقيقة متداولة .
*الدكتور عبد المجيد زراقط. كاتب لبناني. أستاذ الدراسات العليا في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية
المصدر : الدكتور عبد المجيد زراقط
. جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية

بيروت-الطقس