Alayyam - الأيام

جبُّور الدّويهي ،وكتابة تحوُّلات الحياة في وطن "طارد لأبنائه" / عبد المجيد زراقط--جريدة الأيام الإلكترونية.

جبُّور الدّويهي ،وكتابة تحوُّلات الحياة في وطن "طارد لأبنائه" / عبد المجيد زراقط--جريدة الأيام الإلكترونية


 1678 | | | Admin



كتَبَ عبد المجيد زراقط :
فقدت الحياة الأدبية ، منذ أيَّام ، في لبنان والوطن العربي ، الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي والقاصَّ والرِّوائي جبُّور الدّويهي (١٩٤٩- ٢٠٢١) . درَّس جبُّور الدّويهي اللُّغة الفرنسية واَدابها في الجامعة اللبنانية ، وكتب افتتاحيَّات ومقالات نقديَّة ، وكتب رواية : روح الغابة – ٢٠٠١للناشئين بالفرنسية ، ومجموعة قصص قصص قصيرة : الموت بين الأهل نعاس – ١٩٩٠ ، ثم تحوَّل لكتابة الرواية ، واَثر أن يكتب بالعربية ، وهو المختص باللغة الفرنسية واَدابها ، والحامل دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة السوربون الجديدة . ويقول ، في هذا الشأن : أنا لاأريد أن أكون كاتباً فرنكفونياً . أريد أن أكتب عن تحوُّلات الحياة في وطني بلغة وطني .
وتتالت رواياته ، كما يأتي : اعتدال الخريف – ١٩٩٥ ، ريَّا النَّهر – ١٩٩٨ ، عين وردة – ٢٠٠٢ ، مطر حزيران – ٢٠٠٦ ، شريد المنازل – ٢٠١٠ ، حيّ الأميركان – ٢٠١٤، طبع في بيروت – ٢٠١٦، ملك الهند – ٢٠١٩ ، وسمٌّ في الهواء – ٢٠٢١ .
نالت أعماله جوائز عديدة ، وترجمت الى عدة لغات عالمية . كان ، كما يجمع عارفوه ، مثقَّفاً واسع المعرفة عميقها ، طليَّ الحديث ، لمَّاح، متواضعاً ، حادَّ الذكاء ، يجيد الحوار ، ولا يخلو خطابه من سخرية ناعمة ولاذعة في اَن .
في اَخر تكريم له ، في الجامعة الأنطونية ، ضمن سلسلة اسم علم رأى أن شخصيات رواياته صُبغت بتحوُّلات لبنان ، خلال القرن العشرين ، وأهمُّها الحرب والهجرة...، وتفيد قراءة أعماله أنَّها كتابة لهذه التحوُّلات من منظور راء وكاشف ، يرى أنَّ الموت بين الأهل نعاس ، وأين هم الأهل في وطن تتالى فيه الخيبات مثل زخات المطر في كانون ، وتُهدر فيه الطاقات ، وتُوأد الأحلام ، فيتمثل الوطن مكاناً طارداً لأبنائه !؟
لكنه ، واذ يكتب حكاية صراعات برقا الممزقة ، في مطر حزيران ، و منزل عين وردة المعطَّل بفقد الحوار ، وكرم المحمودية الفاقد خصبه الفعلي في ملك الهند ، وفقد المكان الصالح للعيش ل شريد المنازل العابر للطوائف ، يبقى غير قادر على التخلي عن هذا الوطن ، فكأنه الراوي في "اعتدال الخريف ، القائل : أنا لاأتخلى عن فكرة أنني ، بعد موتي ، سأبقى هنا بقربها ( بلدته ) تحت أشجار الكينا . يأخذ الدّويهي ، كما يقول ، الوقت الكافي لكتابة روايته ، فيعيد كتابة الجمل والمقاطع عشرات المرات ، اضافة الى أنه بدأ الكتابة ناضجاً ، كما يضيف. (العربي الجديد ، ١/ ٣/ ٢٠١٨) . وعن علاقته بالوقع – المرجع الذي تصدر عنه رواياته ، يقول : أنا أظهِّر الواقع ، ولا أصنعه ، فالتخيُّل الروائي يتمثل في هذا التظهير ، الخاص ، من منظور خاص راء وكاشف .
يأخذ جبُّور الدويهي مادة رواياته الأوَّلية من وقائع حكايات الحياة اللبنانية ، ففي كل رواية حكاية ، فعلى سبيل المثال : في عين وردة أفول اَل الباز ، وفي مطر حزيران حكاية حادثة مزيارة، وفي شريد المنازل حكاية الطوائف و الهوية القاتلة ، وفي حي الأميركان حكاية البؤس الذي أنبت التكفير ...
تتمثل هذه الحكايات، لدى تظهيرها، من منظور الروائي الخاص ، في بنى روائية متنوِّعة ، ففي عين وردة ، يروي الراوي العليم قصة أسرة اَل الباز التي تعيش في منزل قديم ، ولاشيء يجمع أفرادها سوى جدران المنزل . لكن هؤلاء الأفراد يرغبون في الظهور مثل أسرة طبيعية ، أو مثل أهل ، لكنهم ليسوا كذلك ، فهم يعيشون في منزلهم القديم كأنهم خارج الزمن ، أو كأنهم مثل هذا المنزل ، وهنا يؤدِّي الوصف الخلاَّق للدلالة دور الدال الناطق بهوية البيت وساكنيه ، والبيت ، كما هو واضح ، علامة دالة على الوطن / لبنان وأبنائه .
تتخذ هذه الرواية بنية خيطية تتكسر بالاسترجاع ، وتتقطع بالخطاب ، وخصوصاً بالوصف الخلاَّق ، ويلاحظ تجويد اللغة غير المجاني . وفي مطر حزيران تعرف برقا الممزَّقة بصراعاتها مطرين : مطر الرصاص ومطر السماء الذي أنقذ الكثيرين من الموت .
تتخذ هذه الرواية بنية حبكة "بوليسية" تبدأ بحادثة مشوِّقة ، تتمثل في طلب ادارة مدرسة داخلية من تلامذتها العودة الى بيوتهم ، فلمَ يحدث ذلك ؟ وما هيىالحادثة التي أدت الى اتخاذ هذا القرار ؟
لمعرفة حقيقة ماحدث ، يعود ايليا الكوري من المهجر الى القرية ، بعد أن بلغ الأربعين من عمره ، وعاش في غربته ممزَّق الهوية ، لمعرفة حقيقة مقتل والده ، في حادثة اطلاق نار وقعت في العام ١٩٧٥ ، وقُتل فيها عشرات الأشخاص ، لكنه لايصل الى نتيجة ... ، وتبقى النهاية مفتوحة ، اذ تتعدد وجهات النظر والأصوات ، وتتداخل الروايات... وفي رواية شريد المنازل ينشأ نظام المسلم في كنف أسرة مسيحية ، ويكون سعيداً بأنه ابنٌ لعائلتين محبوب منهما . لكنه يقتل بسلاح احدى الميليشيات الطائفية .
تثير هذه الرواية أسئلة ، منها : هل يعني قتل ( نظام) أن لامكان لأمثاله في مجتمع طائفي ؟ وهل يرمز نظام الى لبنان الذي تقتله الطوائف عندما تتشكل شخصيته من مكوِّنيه معاً ؟ وهل يعني هذا أن لاحياة للبنان ان بقيت الهويات الطائفية والمذهبية فيه سائدة وقاتلة ؟ وهل هذه هي مأساة لبنان التي ينبغي الخلاص منها ؟
يؤدِّي القصَّ ، في هذه الرواية ، الراوي العليم ، في سياق خيطي ، يتقطع بالوصف الخلاق والخطاب ، وتتميز لغتها بشعرية دالة ، ويخطر لي مالا أبعده ، وهو أن شخصية نظام تذكِّر بشخصية جوليان سوريل ، في رواية الأحمر والأسود ل ستندال
. يتتبَّع القارئ اخفاقات شخصيات جبور الدويهي الاَتية : أخفقت "ريا" في رواية ريا النهر في معرفة أسرار عائلتها ، وعاد ايليا في رواية مطر حزيران خائبا الى نيويورك ، بعد أن كان قد هاجر بسبب مجزرة ، واكتفى رضا الباز في رواية عين وردة ، في عزلته، بالرقاد في سريره ، وهو ينظر الى صورة معلَّقة قبالته عائدة الى العام ١٩٣٩ ، وقُتل "نظام" الوسيم اللطيف ، المحب ، المنتمي الى مكوِّني لبنان ، في رواية شريد المنازل وتُفقد اللعنة خصب كرم المحمودية في رواية ملك الهند، ويموج السم في الهواء في اَخر الروايات ، في زمن الخراب الكبير الذي صنعه أمراء الفساد ، ولايزالون يصنعونه...
يتتبع القارئ هذه الاخفاقات والخيبات ، ويسأل : هل الحياة في لبنان ، بمختلف تحوُّلاتها ، والتي يكتب جبور الدويهي حكاياتها، تفيد أنَّ لبنان مكان طارد لأبنائه الى الحروب والهجرة... ، والسبب فقد هذا الوطن " الأهل " ، وهم الذين يكون الموت بينهم نعاساً، والحياة خصباً وعطاء و عمراناً ؟ فان يكن الجواب : نعم ، فالسؤال هو : كيف يغدو أبناء هذا الوطن أهلاً في ما بينهم ، و (أهلاً) لهذا الوطن الجميل الفريد الحبيب ؟
الدكتور عبد المجيد زراقط - قاص وروائي وناقد - أستاذ الدراسات العليا في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية

بيروت-الطقس