في النقد كل اثنين مع عبد المجيد زراقط | في وحدة النص الأدبي/ جريدة الأيام الإلكترونية
وهكذا لا يمكن الفصل بين هويَّة مكوِّن من مكوِّنات نظام العلاقات وموقعه ودوره/ وظيفته في إنتاج فاعليَّة النَّص الجماليَّة الدَّلاليَّة، فما يسمَّى المضمون في النَّصِّ الأدبي هو مضمون جمالي، وليس مغزىً أو معنى مجرَّدين.
وقد يرى بعض الأدباء أو النُّقاد أنَّ هذا الكلام يصدق على الرِّواية، أو على الشِّعر الحديث، ولا يصدق على جميع النُّصوص الأدبيَّة.
وفي رأينا أنَّ هذا الكلام يصدق على جميع النُّصوص، وبخاصَّة النُّصوص الأدبيَّة، الصَّادرة من منظور إلى العالم، لتنطق برؤية إليه ، تكشفه وتريه للمتلقي من منظورها / مراَتها . وليكن مثالنا على ذلك مثالاً غير متوقَّع، وهو الشِّعر الجاهلي، أو المعلَّقات على سبيل التحديد. تبدو نصوص هذا الشِّعر مفكَّكة في نظرة أولى سريعة، أو نظرة سطحيَّة، والحقيقة هي أنَّ هذه النُّصوص تصدر عن منظور كوَّنته تجربة العيش في العصر الجاهلي، ومفاده سعي الإنسان الجاهلي إلى البقاء واقفاً، ومنتصراً في ظروف حياتيَّة تهدِّده بالفناء، ولذا كانت جميع مكوِّنات القصيدة تنتظم في وحدة محورها الشَّاعر. وعلاقته بأشياء عالمه تتحدَّد من حيث جدواها له ولبقائه منتصراً وواقفاً غير منحن، فهذه الأشياء، جميعها، وسائله لهذا البقاء من ناقة قويَّة وحصان جواد وامرأة جميلة وخمرة صافية... وسيف قاطع...
وهو إنَّما يفخر ليُرهب ويُخاف، ويعلم الآخر مدى قوَّته، وليعتقد هو شخصياً بذلك ، ويهجو ليثبط من عزم الآخر ويضعف ثقته بنفسه...
إنَّ أشياء عالمه هي أشياؤه التي تجعله فارساً. واللاَّفت أنَّ رواية معاصرة تؤكِّد هذا، ففي رواية "لا تنبت الجذور في السماء" يقول اسكندر: "إنَّك عندما تصل إلى المرأة كوسيلة، أو كعذر، تكون رجلاً".
رأى الشَّاعر الجاهلي إلى عالمه من هذا المنظور، وتمثَّلت رؤيته في شكل ينطق بها، علاوة على أنَّه يؤدي الوظيفة نفسها، وهي البقاء في الأذهان والصُّدور ومقاومة الفناء، فالتجويد الممتد حولاً كان من أجل فرض حفظ الشِّعر على الرُّواة ، أي جعل جمالية الشعر تجبرهم على حفظه وروايته ، وإلاَّ ما كانوا ليحفظوه لو لم يكن جيِّداً، والجَرْسُ العالي للمعجم الَّلفظي كان من أجل إسماع الخطاب، والوضوح كان من أجل سرعة فهم الخطاب، وكذلك كانت بساطة تركيب العبارة، ووحدة البيت، أو الشَّطر، إنَّما كانت من أجل أن يبقى لهذا البيت ، أو الشطر، وجود، ولو فُقِدَت القصيدة، كلها ، ونسيتها الذَّاكرة. إنَّها مقاومة للفناء في فضاء الصحراء حيث الشفوية والحروب... أي حيث فُقِدَ التدوين واحتمال فقد الرُّواة. وبغية مقاومة هذا الفقد، كانت القصيدة الأنموذج تتضمَّن رؤية إلى تجربة العيش كاملة، مبتدئة بالطلليَّة المرتبطة بالرحيل الدَّائم صوب الغيث في بيداء موحشة خطرة...
في هذه البيداء ، كان الشِّعر ذا وظيفة في البناء المجتمعي، ينطق بالرُّؤية التي تتيح للجاهلي أن يبقى في حالة تأهُّب دائمة، كما يقول الشَّاعر:
إذ لا أزال على رحالة سابح نهدٍ تعاوره الكماة، مُكلَّم... إن هذا إلاَّ مثال، عرضناه سريعاً، وهو يؤكِّد أنَّ مقاربة أي نصٍّ ينبغي أن ترى إليه بوصفه كلاًّ متكاملاً، لا ينفصل فيه المضمون عن الشَّكل، ولا يعزل فيه عنصر عن آخر. وهذه الرُّؤية، في تقديري، هي التي تتيح لنا إنتاج معرفة جماليَّة دلاليَّة بالنُّصوص الأدبيَّة تمكِّننا من كشف الظَّواهر الأدبيَّة ووصفها، وكتابة تاريخ حقيقي للأدب، يقوم على أساس نقد حقيقي للنَّصِّ بوصفه كلاًّ متكاملاً، من دون أي تقديس لا للمضمون ولا للشَّكل؛ إذ لا وجود لأيٍّ منهما منفرداً في النَّصِّ الأدبي، فالشَّكل هو شكل المنظور/الرُّؤية والمضمون هو الرُّؤية/المعرفة الجماليَّة.
د. عبد المجيد زراقط - ناقد. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية
- علامات:
- ثقافة