مع عبد المجيد زراقط في النقد كل اثنين | النَّقد الواقعي وكتابة التَّحوُّلات/ جريدة الأيام الإلكترونية
نحاول، في ما يأتي، أن نتعرَّف إلى النَّقد الواقعي، في مرحلة من تاريخنا الأدبي الحديث، كان فيها سائداً، وسبيلنا إلى ذلك إجراء قراءة في مقالات رائد من روَّاده، كان في تلك المرحلة، في قلب الحياة الثقافية، ولعلَّ اختياره أنموذجاً للدِّراسة، علاوة على ما سبق ذكره، يعود إلى أنَّ أعماله لم تدرس من قبل، علاوة على أنَّه كان على صلةٍ بالإنجازات العلمية، وراغباً في التجديد، وهو د.علي سعد.
قضى د.علي سعد سنتين في مهنة المحاماة (1944و1945) بموازاة متابعته للدِّراسات العليا في الحقوق بعد نيله الإجازة، ثم سافر إلى فرنسا لمتابعة تحصيله في حقول علميَّة، بعد انقطاع دام خمس سنوات تلت الحرب العالمية الثانية، وانتهى إلى الانقطاع للعمل والتدريس في الحقول العلمية "مع بعض الإطلالات على الكتابة الأدبية"(2/303).
كان د.علي سعد، إذاً، يعمل في الحقل العلمي، ويطلُّ إطلالات على الكتابة الأدبية، ونجده يتحدَّث بتواضع العالم عن طبيعة إطلالاته هذه، فيقول، في بداية حديثه عن مجموعة
محمد عيتاني القصصية: " أشياء لا تموت": كان الأجدر بعيتاني أن يتوجَّه بطلب الكتابة عنه إلى من هو أكثر منِّي متابعة لتطوُّر الحياة الأدبيَّة، وأكثر التصاقاً بالأحداث والتيارات التي تفعل في هذا التَّطور" (1/256). لكن علي سعد كان، وكما هو معروف، وبخاصة في آونة مبكِّرة من العمر، في قلب الحياة الأدبية والفكريّة، ثم أبعدته المشاغل عن العمل الأدبي، وهو يقول عن علاقته بمحمد عيتاني أنَّ دربيهما تلاقيا في مطلع حياتيهما عندما كانا عضوين في أسرة أدبية واحدة هي "أسرة الجبل الملهم"، وليس بعيداً، كما يضيف، "أن تكون الهواجس المشتركة التي كانت تشغل مخيَّلاتنا وتستحوذ على نبض أفئدتنا، حينذاك، المنطلق لبعض الاتجاهات والقسمات المميزة لجانب من قصص هذه المجموعة...، وليس بعيداً أيضاً، "أن يكون المؤلِّف قد حقَّق بكتابة هذه القصص إحدى أمنيات أسرتنا في أن نتمكَّن يوماً من كتابة حكاية التحوُّلات الهائلة والتبدُّلات المزلزلة التي عصفت بمجتمعنا وأناسه" (1/257و258).
كان علي سعد، ومنذ مطلع حياته الأدبيَّة، كما يبدو، منتمياً إلى تيَّار لديه هواجس وأمنيات تشغل، أو تشعل، المخيَّلة، وتستحوذ على نبض الأفئدة، أو تملي على القلم كتابة التحوُّلات التاريخيَّة، فكان ممن أسهموا في تطور التيار الواقعي في الأدب إلى جانب روَّادٍ آخرين تحدَّث عن عددٍ منهم في كتابه: "في الثقافة العربية: تيارات وأعلام من لبنان والوطن العربي". وإن يكن كثير من مؤرِّخي الأدب اللبناني ونقَّاده قد أسهب في التحدُّث عن تيارين آخرين عرفتهما الحياة الأدبية، فإنَّ الحديث عن التيار الواقعي كان قليلاً، والتيَّاران المعنيَّان هما:
1 ـ التيَّار اللِّيبرالي، صاحب الدعوة إلى حضارة متوسِّطية ـ كونيَّة، ويمثِّله "تجمُّع شعر" أساساً، وكان يرى أنَّ الحضارة الغربية الحديثة هي تجلٍّ معاصر من تجلِّيات الحضارة المتوسِّطية التي ننتمي إليها، ولذا ينبغي تبنِّيها والصدور عنها.
وإن يكن معظم أعضاء هذا التجمُّع يتحدَّرون من الحزب السوري القومي الاجتماعي فإنَّهم، كما نرى، يختلفون في هذه الرؤية، عن رؤية زعيمه أنطون سعادة، وتحديداً في أنَّه لم يكن يرى في الحضارة الغربية الحديثة تجلِّياً للحضارة السورية المتوسطية، وإنَّما كان يدعو، بغية تحقيق الجدَّة الأدبية والانبعاث، إلى الصدور عن الحياة، وليس عن النماذج الغربية، وهو في هذا المنحى يقترب من التيار الواقعي.
2 ـ التيَّار القومي العربي، صاحب مشروع النهضة العربية الذي اختار كثير من روَّاده الفلسفة الوجودية منظوراً يرى منه إلى العالم، ويمثِّله عدد كبير من "تجمُّع "الآداب".
ويلاحظ أنَّ هذين التَّيارين اللذين اختلفا في السياسة اتفقا في الإبداع الأدبي على مستويي المنظور والخصائص، كما نرى على سبيل المثال، من قرابة بين روايات سهيل إدريس وروايتي ليلى بعلبكي.
ولمَّا كان الحديث عن التيَّار الواقعي قليلاً، ولمَّا كان علي سعد واحداً من روَّاد هذا التيار، رأينا أن نتحدَّث في الحيِّز الذي يسمح به المقام، عن موقع هذا الكاتب في الحياة الأدبية ودوره في تكوين هذا التيار وتطوُّره في لبنان.
قد تكون إحدى مراحل تكوُّن هذا التيار البارزة ذلك المناخ الذي كوَّنته مجلَّة الأديب في أواخر الأربعينات وعلى مدى الخمسينات...". ويتحدث علي سعد عن دور ألبير أديب صاحب المجلَّة ورئيس تحريرها في تكوين هذا المناخ، فيقول:
"والنَّقلة من موقع المعرفة بالذاات إلى الموقف الذي يتحوَّل إلى إيمان بوجوب تأدية رسالة تهدف إلى تغيير العالم والإنسان... خطاها ألبير أديب من دون تردُّد. هذه المعاني البسيطة والرموز العميقة، التي كانت تتردَّد في نشيده الفردي، ما لبث أن وجد فيها حوافز تدفعه لإبلاغ الناس مضامينها الكامنة في نفسه ومكنونات قرائح الشعراء والكتَّاب الذين عرف كيف يجنِّدهم ويحرِّكهم بكل ما أوتي من فنون الإقناع، ليتلاقوا على صفحات الأديب" (2/193و194).
أحدثت مجلة الأديب نقلة/ تحوُّلاً في موقع المعرفة الجمالية ودورها: فكانت ملتقىً لمجدِّدين يصدر أدبهم عن الحياة رسالةً تهدف إلى تغيير العالم والإنسان، وأفضى هذا الملتقى إلى تأسيس "أسرة الجبل الملهم" التي توافقت على أن يكون علي سعد رئيسها.
وقد قامت هذه الأسرة، كما يقول علي سعد، "منذ بداية الخمسينات تدعو إلى الواقعية في العمل الأدبي، وإلى ضرورة مشاركة الأدباء والشعراء في النضال لقضايا مجتمعهم، وإلى ضرورة استكشاف آفاق جديدة في تراث البلدان والمجتمعات الشبيهة بمجتمعاتنا..." (2/136).
وجاء، في الفقرة الأولى من ميثاقها، أنَّها تكوَّنت من أجل أن تلبِّي حاجةً ملحَّةً تتمثَّل في الإسهام في خلق أدب حي أو مساعدة كل أثر موهوب على الظهور بشكل لائق، وبعث حياة أدبيَّة خيِّرة لخلق جو حضاري جديد بالتعاون مع الأصوات الطالعة في لبنان والبلاد العربية والمساعدة في بناء مجتمع أفضل.
وعملت الأسرة على تحقيق ما دعت إليه في ما كان ينشر على صفحات الطريق والثقافة الوطنية، من نصوص أدبيَّة ومقالات ودراسات أدبية وفكرية، وفي التَّرجمات والمجموعات القصصية والشعرية التي كان يضعها بعض من أعضاء الأسرة.
ويمكن تركيز أبرز الأسس التي بلورها هذا التيَّار في هذه المرحلة، في ما يأتي:
1 ـ التجديد الأدبي، وبعث حياة أدبية خلاَّقة، ومن وسائل ذلك مساعدة كل أثر أدبي موهوب على الظهور بالشكل اللائق، 2ـ الصدور، بغية تحقيق التجديد الحقيقي، عن الواقع المعيش، 3ـ إبلاغ المتلقِّي رسالةً تهدف إلى وعي هذا الواقع وتغييره، 4ـ مشاركة الأدباء في النضال من أجل قضايا مجتمعهم، بغية تحقيق مجتمع أفضل، 5ـ الاتصال بالأصوات الطالعة في لبنان والبلاد العربية، 6ـ استكشاف آفاق جديدة من تراثنا وتراث البلدان والمجتمعات الشبيهة بمجتمعاتنا...
ثم وجد المثَّقفون المنتمون للتيار الواقعي في مجلَّتي" الثقافة الوطنية" و"الطريق" المنبر الداعي إلى هذا التيار في العمل الأدبي، وإلى اعتبار الإبداع الأدبي إحدى الركائز للنهوض القومي والوطني ولبناء المستقبل الإنساني الأفضل، ويقول علي سعد في هذا الصدد: "ومجلة الطريق كانت السبَّاقة بين المجلاَّت العربيَّة في إعطاء الثقافة المضمون النضالي والدور الهادف الملتزم بخدمة قضايا أوسع الجماهير..."(2/134).
تمثَّل إسهام على سعد، بدايةً، في ترجماتٍ مختارة، فترجم مجموعة من شعر ناظم حكمت صدرت عام 1952، ومسرحية لوركا الشعرية:"عرس الدم" التي صدرت عام 1954. وقدَّم لكلٍّ من الترجمتين بمقدِّمة تعرِّف بالشاعر وعمله واتجاهه وخصائص شعره، فشعر ناظم حكمت، كما جاء في مقدِّمة علي سعد، وعنوانها: "نحو أدب واقعي"، يدل على أنَّ الحدود بين الحياة والشعر ليست إلاَّ وهماً، وأنَّ بوسع الشعر الحقيقي أن يكون امتداداً للحياة العادية في نفس الشاعر، وإخصاباً متبادلاً بينهما"(1/9)، وشعر لوركا، كما جاء في مقدِّمة علي سعد، تحت عنوان: "العالم الشعري عند لوركا"، تتزاوج فيه السريالية بالواقعيَّة، ويتَّخذ بناءً درامياً، ليمثِّل، مستخدماً مختلف التقنيات الشعرية الواقع الإنساني المعيش معاناةً وطموحات.
ثم، وفي إطلالات علي سعد المرتبطة بنشاطات ثقافية: ندوات أو مؤتمرات، يبدو معنيَّاً بتفعيل حركة ما سمَّاه "المسار الوطني الديمقراطي" للثقافة، فما يجمع الأعلام الذين تحدَّث عنهم وعن أعمالهم هو سعيهم إلى تفعيل هذا المسار، بوصفهم أصحاب نزعات تحررية...، ومن هؤلاء: الياس أبو شبكة، عبد الوهاب البياتي، طه حسين، محمد عيتاني، مارون عبود، أمين نخلة، ألبير اديب، عاصي الرحباني، حسين مروة، رئيف خوري، عبد الله العلايلي...
ومن الأمور البارزة، في دراساته عن هؤلاء الأعلام، تركيزه على جوانب لم يركِّز عليها الباحثون لدى هذا العَلَم أو ذاك. ففي حديثه عن عبد الله العلايلي يرى إلى البُعدين: السياسي والاجتماعي في كتاباته اللغوية والفقهية، وينتهي إلى القول: "إنَّ الإنسان هو الهمّ الأساس والأول لهذا الشيخ الفقيه اللغوي الأديب.."، وفي حديثه عن طه حسين يرى إلى الوحدة في تنوُّع إنتاج هذا العلم، وهي السعي دائماً وراء الضوء بغية أداء دور تنويري...، وفي حديثه عن عاصي الرحباني يرى إلى الجانب الشعري في نتاجه أو نتاج الرحبانيين، فيقول: إنَّ العمل الشعري يشكِّل المكوِّن الأساس في هذا النتاج، بل هو المنطلق والدعامة وأداة التوجيه والضبط للمكوِّنات الأخرى، وفي حديثه عن حسين مروة يرى إلى المناضل الإنسان فيه، إلى الشاعر في سلوكه وفي كتاباته، فحسين مروة حين يكون المقاتل، الأكثر توقُّداً وحماسة وثباتاً وشمول ثقافة وعمق رؤية ونفاذ بصيرة، لجميع القوى التي تعوِّق تقدُّم الإنسان يكون شاعراً بمعنى للشِّعر هو: الخلق البدئي، هو الخلق الشعري، وحسين مروة حين يتعامل مع الآخر بفرح الطفولة، أو لهبها البهي يكون شاعراً. وهنا يحدِّد علي سعد معنىً للشعرية يقرب من معنى ما يسمَّى اليوم "الشعرية العامَّة"، فهذه يمكن أن توجد في الكائنات جميعها بوصفها تجلِّياً للخلق المحقِّق فرح الإنسان وسعادته وتقدُّمه، أو كما يقول علي سعد، هي "دعوة إلى مواسم العقل وأعياد القلب". وفي حديثه عن مارون عبود يرى إلى الجذور بحثاً عن النَّسغ الذي هو واحد أو متقارب التركيب. وفي حديثه عن أمين نخلة يرى إلى تفاعل العقل والحدس المؤتي صنيعاً فريداً يُعْنَى بالهموم الوطنية والقومية والإنسانية.
وهكذا نرى أنَّ علي سعد يختار، من بين الحشد الضَّخم من المعطيات، ما يتَّصل بالمسارات الأكثر توهُّجاً، أو الأكثر إلحاحاً وتأثيراً في الأدب...، إنَّه يبحث، مستفيداً من طرائق مألوفة في العلم، عن المكوِّن الأساس والمنطلق... ومن ثم عن النتاج وخصائصه، فتتم بلورة المنظور ومكوِّناته وخصائص العمل الذي يصدر عنه.
إنَّ البحث عن المكوِّن الأساس / الجذر، فَالنَّسغ فالمنظور، يعني معرفة الذات، وهذه المعرفة تقتضي لتثمر أدباً واقعياً نقلةً إلى الموقف الذي يتحوَّل إلى إيمان بوجوب تأدية رسالة تهدف إلى تغيير العالم والإنسان. والرسالة هذه تتمثَّل في النص الأدبي المفروض أن يتصف بالشعرية ليغدو قيد التداول، أو ليغدو بلغة النقد المعاصر خطاباً يبلغ المتلقي مضامينه في حالٍ من المتعة الجمالية، فالشعرية هنا، شرط الفعالية، أو شرط تحوُّل النص إلى خطاب فاعل ودائم الفعالية.
ومن هنا كانت إطلالات علي سعد، في الوقت الذي تركِّز فيه على المكوِّن الأساس، متابعة لتلك النقلة التي تحدَّث عنها، فجاءت مزيجاً من الانطباعات والبحث وتداخلاً بين النقد والسيرة من نحوٍ أول، وبين النَّص والمؤلِّف والخطاب من نحوٍ ثانٍ.
ومن النماذج الدالَّة على ما نذهب إليه نذكر ما يأتي:
ـ قوله: "قد يكون من التجنِّي درس الشاعر الياس أبو شبكة بصورة مُجزَّأة، فيسلخ شعره عن حياته"(1/84). وقد أدَّى هذا النهج في الدراسة إلى استنتاج مفاده أنَّ شعر "أبو شبكة" الرومنطيقي وليد تجربته الفريدة، ما يجعله خلقًا وليس نقلاً عن الرومنطيقيين الفرنسيين، وإذ يصل إلى هذه النتيجة يتساءل معه:
وعنِّـي قلتُ الشِّـعر أمْ عنـكِ قلتـه / ومن في الهوى يُملى عليه ومن يُملي!؟
ويتبيَّن لدى "أبو شبكة" ظاهرة فريدة، من مظاهرها التعرية، وثنائية الخطيئة # الطُّهر، ويفسِّر هذه الظاهرة بقوله: "... ومن هنا كان شعوره بالخزي والعار، بسبب بُعد المسافة التي كانت تفصل الدَّرك الذي تردَّى فيه بين ذراعي تلك المرأة عن المثل الأعلى الذي كان يحمله في خياله"(1/95).
ـ تساؤله، لدى الكلام على محمد عيتاني:" ما لي أتحدَّث عنه أكثر ممَّا أتحدَّث عن قصص مجموعته" (1/259)، ثم يتحدَّث عن هذه القصص، في ضوء ما سبق، فيصنِّفها ويتبيَّن خصائصها.
إنَّ هذا النهج في المقاربة يجسِّد رؤية الباحث إلى النَّقد، ففي دراسة له عن النَّقد يثير مسألتين: أولاهما = هل النقد تابع، هامشي، أو نوع أدبي مستقل؟ وثانيهما = هل النقد عمل إبداعي؟
وفي سبيل الإجابة يعرض آراء منها رأي إيليوت القائل: "لا أظن أنَّ متحدِّثاً واحداً عن النقد استطاع أن يدَّعي أنَّ النقد فن غاية في ذاته". ولا يمنعه ذيوع اسم إيليوت من مناقشة رأيه هذا، وينتهي بعد النقاش إلى القول: إنْ تكن مادة النَّقد هي الأعمال الفنية، وإن تكن هي علَّة وجوده، فإنَّ هذا لا ينفي استقلاله، إذ إنَّ كثيراً من الفنون يصح عليها ما يصح عليه، فالشعر مادَّته اللغة، فهل يعني هذا أنَّه تابع وهامشي؟ فالنقد فنٌّ له أصوله ومقاييسه وتقاليده...، ويفيد، في الوقت نفسه، من الفنون الأخرى ومن مختلف العلوم، وطالما أنَّه فن مستقلٌّ، كانت الطريق مفتوحة أمام المشتغلين به لتحقيق ما يمكن أن يوصف بالعمل المبدع الخلاَّق، ويقرِّر أنَّ "النقد هو أحد النشاطات الإنسانية التي تقع على التخوم القائمة بين العلم والفن"(1/73)، ثم يقرِّر في موضع آخر أنَّ النقد "عمل إبداعي ولكن بصورة معكوسة، يعيد بتحليله للأثر الفني خلق عالم الفنان من جديد وبصيغة جديدة، وهو يحمل من عدة وجوه الطابع الفردي الأصيل الذي نجده في كل صنيع فنِّي"(1/7 و79).
والإبداع، لدى علي سعد، هو "القدرة الفائقة على التعبير عن الجمال وعلى نقل الإحساس به إلى الآخرين" (1/59)، وهو كان يحاول أن يمارس هذه القدرة في نقده، ويدعو إلى ممارستها في كل فن، وهذا ما يطرح سؤالاً أساساً عن مفهوم الواقعية لديه، وهل يتلاءم هذا المفهوم مع مفهومه للإبداع، ثم يطرح سؤالاً آخر عن مفهومه للعملية الإبداعية وملاءمته للمفهومين السابقين.
يميِّز علي سعد بين نهجين في الكتابة لدى من يسمّون بالكتَّاب الواقعيين: أولهما الواقعي، وثانيهما التصوير المباشر للأحداث والأشخاص، ويحذِّر من مزالق الالتباس بينهما، فالنهج الواقعي ليس نقلاً للواقع، ولا عكساً له كما تعكس الأشياء في المرآة، وإنما هو من نحوٍ أوَّل تحرِّي الحقائق الأساسيَّة الكامنة خلف الأحداث والوقائع التي تشكِّل نسيج الحياة المتطوِّرة، وهذا التحرِّي مارسه علي سعد في شقٍّ من نقده كما رأينا من قبل، وهو من نحوٍ ثانٍ إعادة بناء الحياة بوساطة أحداث وأشخاص ومواقف، لم تقع، ولم تقم بالضرورة في واقع الحياة الفعلي، وإنما يحتمل وقوعها وقيامها تمشِّياً مع منطق الوقائع التي يخلقها، ومع الحقائق الأساسية التي يكتشفها خلف الأحداث الواقعية"(1/267و268).
الواقعية، كما يرى علي سعد إذاً، خلق وليست انعكاساً مباشراً، فالأثر الفنِّي، كما يرى "نتاج نفس الفنَّان وفكره، ولا يعكس العالم الخارجي إلاَّ من خلال الفرد الإنساني الذي هو الفنَّان. الصَّنيع الفنِّي ليس صورةً عن العالم إلاَّ من خلال ما يُسمِّيه النقَّاد المعاصرون: التجربة الشخصية للفنان"(1/79). من هذا المنظور ميَّز علي سعد، في الصَّنيع الروائي، بين المادَّة الأولية، وبين النَّص الروائي، فالمادة الخام، كما يقول، مبذولة بسخاء في العالم الخارجي، أما الصَّنيع الروائي فوليد الفرادة في طريقة عرض المادة، وفي كيفية تشكيل مختلف عناصرها...، وهذه الفرادة تؤتيها الرؤية التي يختارها المؤلِّف لنظم الشتات الضخم من التفاصيل"(2/294). وهنا يلتقي علي سعد مع منظِّري السردية ابتداءً من الشكليين الروس القائلين بالمتن القصصي والمبنى القصصي، ولا أعرف إن كان مطَّلعاً على تنظيراتهم أم لا، فالمهم هو أنَّه نظر إلى الأعمال الأدبية وفيها من هذا المنظور المتميِّز للنقد الواقعي، فرصد ظواهر وتبيَّن خصائص وأشار إلى عيوب من دون أن يجامل، فكان رائداً في ميدان شغلته عنه المشاغل، وأطلَّ عليه إطلالات بين حين وآخر. وقد جاءت إطلالاته كما تبيَّنَّا متأنِّية متأمِّلة تتبيَّن وتكشف وتبيِّن، وتظل في سعي دائم، وراء ضوء هنا وضوء هناك، فلعلَّ حزمة الأضواء التي تتشكَّل تسهم في تكوين تيار ينبغي أن يتجذَّر ويتواصل في مسار نهضوي طويل.
* عبد المجيد زراقط. أكاديمي. ناقد أدبي. قاص وروائي
جريدة الأيام الإلكترونية. الصفحة الثقافية
- علامات:
- إقتصاد