عبد المجيد زراقط : *
توظيف الشعراء/ دور الخوف
والسؤال الذي يطرح ، هنا ، بعد أن تحدثنا عن الموضوع والعصر ، وفاعلية الشعر وحاجة السلطان له ، في المقالة السابقة ، هو :
كيف تمكَّن "السلطان" من توظيف الشعراء الذين كان لهم هذا الدور الفعَّال في المجتمع العربي في تلك الآونة؟
في الإجابة عن هذا السؤال، نستقرئ بعض الوقائع في ما يأتي :
1- استولت الدولة على الخراج الذي يُؤدَّى على الأرض والناس... ، وكانت توزّعه " عطاءً " ، كما سمِّي اَنذاك ، تستطيع أن تمنحه بالمقدار، وإلى المدى ، اللذين تشاؤهما ، وكانت تستطيع أن تمنع هذا العطاء عمَّن تشاء أيضاً .
وكان الحرمان من العطاء يعني الموت من منظور من يُحرم منه.
يصرِّح الشاعر جرير بذلك ، فيقول :
- مَنعْتَ عطائي، يا ابن سعدٍ/ وإنما
سبقت إليَّ الموت، وهو قريب
- وجاء عبدالله بن قيس الرقيات إلى عبدالله بن جعفر ، بعد أن مُنح الأمان ، وحُرم من العطاء، يقول:
"ما نفعني أماني، تُركت حياً كميت، لا آخذ مع الناس عطاءً أبداً!" .
2- حبس والي العراق، خالد القسري، الشاعر الكبير ، الفرزدق، فخاف مصير مساجين هذا الوالي الذي كانت تُرمى جثثهم من السجن بحجة أنهم انتحروا بمصِّ خواتمهم السامة . فأشهد الحاضرين على أنَّه لا يحمل خاتماً، واستنجد القبائل القيسيَّة.
وفي السجن ، يهزأ به سجين، ويقول له: إن بني مجاشع (عشيرة الفرزدق) أذلُّ وألأم لأنهم لم يستطيعوا أن يمنعوا شرطياً من أن يسوق شاعرهم وسيدهم إلى السجن .
ويُروى أنَّ الفرزدق كان يردد : "السباع أهون من زياد"، ويقصد زياد ابن أبيه والي العراق.
3- روى الناقد محمد بن سلاّم مايأتي : "وفد الحجاج على عبد الملك... فأهدى إليه جريراً".
وكان هذا الوالي، أي الحجاج ، قد وصف شاعره الأثير ، وهو جرير ، بأنه "جرو هراش". أما عبد الملك فخاطب الأخطل عندما أغضبه جرير: "...أنت شاعرنا ومادحنا، إركبه، فرمى رداءه وألقى قميصه على منكبه ، ووضع يده على عنقه" .
4- لم يفارق جرير الشام قبل أن يفوز بجائزة عبد الملك لأنَّ عدم فوزه بها، كما قال، يعني إسقاطه إلى آخر الدهر .
تفيد هذه الوقائع ما يأتي: أولاً أنَّ السلطان كان المتحكم الوحيد بالإنتاج والمال وتوزيعهما "عطاءً " ، وأنَّ الحرمان من هذا "العطاء" كان يعني آنذاك "أن يُترك المرء حياً كميت". فكان الشاعر يخاف من أن يترك هكذا. وثانياً، أن شرطيّاً كان يسوق شاعراً كبيراً مثل الفرزدق، وكان هذا يخاف على حياته وحريته من الشرطة . وثالثاً أن الشاعر كان وهو مُطيع يُذلّ فيُهدى، ويوصف بأنه "جرو هراش" وإن اعترض "يُركب"، ورابعاً أن الشاعر كان يخاف أن "يسقط" إن مُنعت عنه الجوائز.
وفي هذا جميعه خوف من "السلطان"، على الحياة والحرية والرزق والكرامة والمكانة...، وقد أثمر هذا الخوف نوعاً من الشعر يمكن أن نسميه "مديح المحترفين السياسي".
ما يشغل محترف المديح السياسي، عبَّر عنه الفرزدق ، عندما خاطب الخليفة بقوله :
وإن أستطع منك الدنوَّ فإنني/ سأدنو بأشلاء الأسير المقيّد
فالقضية التي تشغل الفرزدق هي القرب من الخليفة و"الدنوّ"، وقد كرر هذه اللفظة، ثم إنه يشك باستطاعته ذلك، وإن فعل فهو "آت بأشلاء"، ويحسّ بأنَّه تقطَّع وانتهى، وعلى الخليفة أن يعيد صياغته من جديد، وفق ما يريد، والدنُّو منه أو القرب منه هو الذي يحقق هذا.
الشاعر، هنا، يعاني من وضعه إزاء السلطان، وقد أجاد التعبير عن هذا الوضع، فالقرب منه هو بمعنى السير في ركابه ؛ وهذا القرب هو ما يعيد له حياته العادية وإلا فهو منتهٍ . وقد تمثل هذا القرب احترافاً للمديح السياسي، خوفاً من نحو أوَّل، وطمعاً من نحو ثان، وهذا ما يقوله الفرزدق بوضوح:
"نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلَّى عنه انقلبنا عنه"، "والدنيا مطلوبة، وهي في أيدي بني أمية" .
* د. عبد المجيد زراقط. أكاديمي - ناقد أدبي - قاص وروائي
جريدة الأيام - الصفحة الثقافية
-
الرئيسية
-
ثقافةمحلياتدولياتمجتمعرياضةمنوعات
-
التطبيق
- تواصل معنا

عبد المجيد زراقط.. مديح الشعراء المحترفين السياسي- من تجلِّيات ثقافة الخوف في الشعر العربي ( 2) / جريدة الأيام الإلكترونية .
عبد المجيد زراقط.. مديح الشعراء المحترفين السياسي- من تجلِّيات ثقافة الخوف في الشعر العربي ( 2) / جريدة الأيام الإلكترونية
467 | | | Admin